الثلاثاء، 2 ديسمبر 2025

القديس يوحنا ذهبيّ الفم… صوتٌ لا يشيخ وكلمةٌ لا تنطفئ

 بقلم الكاتب ابانوب رفعت سعد

القديس يوحنا ذهبيّ الفم… صوتٌ لا يشيخ وكلمةٌ لا تنطفئ

يُعَدّ القديس يوحنا ذهبي الفم أحد أبرز أعمدة الكنيسة في القرون الأولى، وصاحب أثرٍ روحي ولاهوتي ترك بصمة لا تُمحى في تاريخ المسيحية. لم يكن مجرد أسقف أو لاهوتي، بل كان مدرسة قائمة بذاتها، تجمع بين البلاغة، والعمق الروحي، والشجاعة في قول الحق، فاستحق أن يُلقَّب بـ “ذهبي الفم” لقدرته الفريدة على مخاطبة القلوب والعقول معاً.

نشأته وبداياته الروحية

وُلِد يوحنا في أنطاكية نحو عام 349م، في أسرة مسيحية قوية الإيمان. توفي والده وهو صغير، فتولّت أمّه “أنتوسا” تربيته تربية صارمة ممزوجة بالحنان والحكمة. أظهر الفتى موهبة لافتة في البلاغة والفلسفة، ما دفع أشهر أساتذة الخطابة في ذلك الزمن، ليبانيوس، إلى القول عنه: "كان سيكون خليفة لي لولا أن المسيحيين خطفوه".

اتّجه يوحنا إلى الحياة النسكية بعد تعمّقه في دراسة الكتاب المقدس، فعاش سنوات طويلة في الجبال متفرغاً للصلاة والصوم والتأمل. هذه الفترة صقلت شخصيته الروحية، ومنحته رؤية واضحة لرسالة الكاهن، التي لم يلبث أن حملها بعد سيامته.

خادم الكلمة… وبلاغة السماء

تألّق ذهبي الفم في كرازته داخل أنطاكية، حيث اجتمع حوله آلاف المؤمنين. لم تكن عظاته مجرد خطب دينية، بل رسائل حياة موجهة للناس، يفسّر فيها الوصايا، ويواجه الخطايا، ويذكّر الأغنياء بحقوق الفقراء، ويدعو إلى حياة طهارة وتوبة مستمرة.

تميّز بأسلوب مباشر، بسيط، وعميق في آنٍ واحد. كان يجمع بين البلاغة اليونانية والروح الإنجيلية، ما جعله الأقرب إلى قلب الشعب، والأكثر مهابة لدى الحكّام الذين لم يرحّبوا بصراحته.

أسقف القسطنطينية… وصدام مع السلطة

عام 398م، تم استدعاؤه ليتولّى كرسي القسطنطينية، أحد أهم المراكز الكنسية في الإمبراطورية. هناك ظهر بوضوح موقفه الحازم من الفساد والظلم. لم يتردد في انتقاد التجاوزات داخل البلاط الإمبراطوري، وكرز بقوة ضد المظاهر الزائفة للثراء والطمع.

هذا الوضوح في الحقّ جعله يصطدم بالإمبراطورة “أودوكسيا”، التي رأت في عظاته تهديداً لمكانتها. وبفعل وشايات بعض الأساقفة، دخَل في سلسلة من المحاكمات والنفي، انتهت برحيله تحت الحراسة عام 407م، وهو يردّد كلمته الشهيرة: "المجد لله دائماً وأبداً".

تعليمه وإرثه الروحي

ترك يوحنا ذهبي الفم تراثاً ضخماً من العظات والتفاسير والرسائل. من أهم ما قدّمه للكنيسة:

القداس الإلهي المعروف باسمه، والذي يُعتبر الأكثر استخداماً في الكنائس الشرقية حتى اليوم.

تفاسير أسفار العهد الجديد التي تتميّز بالوضوح والربط بين النصوص والواقع العملي.

تعليم قوي حول العطاء، والرحمة، والتوبة، والحياة المسيحية الفعّالة.

دفاع صريح عن العدالة الاجتماعية، ورفض استغلال الفقراء.


يُعد ذهبي الفم واحداً من أوائل من تحدثوا بجرأة عن دور الكنيسة في خدمة المجتمع، وليس فقط في التعليم الروحي.

إنسانية وقداسة

على الرغم من صلابته في الحق، إلا أن يوحنا كان شديد الحساسية تجاه الإنسان. كان يرى في كل شخص صورة لله، ولذلك وقف بجانب الأرامل والأيتام والمظلومين. حياته النسكية وصلابته الأخلاقية جذبت إليه القلوب، ليس فقط لأنه “ذهبي الفم” في الوعظ، بل لأنه “ذهبي القلب” في المحبة.

خاتمة… قديس للعصور كلها

رحل القديس يوحنا ذهبي الفم، لكن كلمته لم ترحل. ما زالت عظاته تُقرأ، وتعاليمه تُدرَّس، وقدوته تُلهم الملايين. هو نموذج للكاهن الحقيقي الذي يحمل نار الإنجيل دون خوف، ويقف أمام السلطة دون تراجع، ويخدم الفقراء دون تردد.

إنه صوتٌ منيرٌ في تاريخ الكنيسة، وصدىٌ ممتدّ عبر الزمن، يُذكّرنا بأن الحقّ لا يُطفأ، والكلمة التي تُقال بمحبة تبقى حيّة إلى الأبد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Post Top Ad

Your Ad Spot