في عالمٍ مضطربٍ تتصارع فيه القوى الكبرى على النفوذ والموارد، تبرز مصر بثبات كصوتٍ للعقل والحكمة، محافظةً على توازنٍ دقيق بين المصالح الوطنية والعلاقات الدولية المتشابكة. فبينما تشتعل الأزمات في الشرق الأوسط من غزة إلى السودان، تقف القاهرة حاضرةً، لا كمجرد متفرج، بل كفاعلٍ أساسي يسعى لإطفاء الحرائق لا لإشعالها.
منذ عقود، كانت السياسة الخارجية المصرية تُعرف بقدرتها على الجمع بين المبادئ والبراغماتية. واليوم، تستعيد هذه السمة بوضوح في ظل عالمٍ تتبدل فيه التحالفات بسرعة الضوء. فمصر لا تنحاز إلى محورٍ ضد آخر، بل تسعى إلى حماية مصالحها الوطنية عبر التفاهم، لا التصادم.
في الملف الفلسطيني، تواصل القاهرة القيام بدورها التاريخي كوسيطٍ موثوق، تتحرك بين الأطراف المتنازعة للحفاظ على خيط الأمل الأخير في السلام. وفي الوقت ذاته، تنشط الدبلوماسية المصرية في الملف السوداني، محاولةً منع انزلاق الجار الجنوبي إلى حربٍ أهلية شاملة، إدراكًا منها أن استقرار السودان هو جزء من استقرار مصر نفسها.
أما في ليبيا، فالدور المصري لا يقل أهمية؛ إذ تدعم القاهرة الحل السياسي وترفض منطق الميليشيات والتقسيم، حفاظًا على وحدة الدولة الليبية ومصالح الشعب الليبي.
ورغم أن النظام الدولي يشهد تحولاتٍ جذرية، فإن مصر استطاعت أن تحافظ على علاقات متوازنة مع واشنطن وموسكو وبكين، دون أن تفقد استقلالية قرارها. فهي تدرك أن العالم لم يعد أحادي القطب، وأن الانفتاح على الجميع هو الطريق الأذكى لحماية المصالح الوطنية.
الملفت أن الخطاب السياسي المصري أصبح أكثر هدوءًا واتزانًا، بعيدًا عن الانفعال أو التصعيد، وهو ما أعاد للدبلوماسية المصرية مكانتها التقليدية كمدرسةٍ في "فن الممكن".
وبينما تتسابق بعض الدول نحو المغامرة، اختارت القاهرة طريق الحكمة والواقعية، مستندةً إلى تاريخٍ طويل من القيادة والعقلانية.
إن نجاح السياسة الخارجية المصرية اليوم لا يُقاس بعدد التصريحات أو الزيارات الرسمية، بل بقدرتها على تجنيب البلاد الأزمات، وحماية مصالحها في بحرٍ مضطربٍ من التحالفات والضغوط.
ففي زمنٍ تتساقط فيه أوراق الثقة بين كثير من الدول، ما زالت مصر تحتفظ بمكانتها كـ"بيت العرب" وصاحبة الكلمة المسموعة في المحافل الدولية.
لقد أثبتت التجربة أن الدبلوماسية الهادئة ليست ضعفًا، بل قوةٌ في زمن الضجيج، وأن صوت الحكمة المصرية ما زال قادرًا على فرض حضوره في عالمٍ يتغير كل يوم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق