السبت، 1 فبراير 2025

حضارات الغرب

هناك في الأعماق شعورٌ مضطرب، بين أنينِ صرخاتِ أطفالٍ وشيوخٍ ومرضى، تحترقُ أجسادهم، كأنها شريطٌ من الصورِ تمرّرهُ الذاكرةُ في مُخيّلتي: رضيعٌ في سريره، وكهلٌ متكئٌ على عصاه، وصبيٌّ ينظرُ من الشرفة، ليجدَ أنَّ الأمانَ المُحيطَ بالمنزلِ ليس إلا لحظاتٍ تتحوَّلُ فيها الجدرانُ إلى جحيمٍ منفِّذ، لا فرارَ منه، في بلادِ "الحرياتِ المستنسخة"، و"الإنسانيةِ المرجوّة"، و"العدالةِ الزائفة"، وسط بَهْرَجَةِ هوليوود، وتقنيةِ التسليةِ، و"الكتاب الأزرق" لمارك زوكربيرغ.

ومضةٌ من الحداثةِ بين قرنٍ ماضٍ، أعلنَ فيه فان غوخ للمستشرقين أنَّ الحداثةَ والحبَّ أصاباهُ بالاكتئاب، لينتهيَ أشهرَ فنانِي عصرهِ مُتوفّىً في غرفته، بعدما قطعَ إحدى أذنيه.

وهل تجرؤُ أمريكا على اقتلاعِ تمثالِ المرأةِ الشابّةِ، حاملةِ شُعلةِ الحرية؟

ذلك التمثالُ "المسروق" من ميناءِ الإسكندرية، كما ذكرَ توفيق الحكيم في كتابهِ ثورة الشباب. لتنهضَ العجوزُ بولاياتِها مرَّةً أخرى، وتعيدَ ترجمةَ ما كتبَ الرحّالةُ العرب، من الفارابي، وابن سينا، وابن خلدون... لتدّعيَ ملكيةً فكريةً من العدم، ويتغيرَ شكلُ الزحفِ الصليبي مع الزمن، ليصلَ إلى سرقةِ وإغراقِ مكتبةِ الإسكندرية مرَّةً أخرى، وإحراقِ مكتبةِ بغداد، والعبثِ بتاريخِ الشعوب، فما تركوا دهليزًا أو سردابًا إلا ونقّبوا فيهِ بأظافرِ الأرنبِ، ثم كشّروا أنيابَهم كأسدٍ في وجهِ الحضارات.

وهكذا، تعودُ دمشقُ بلا هوية، ولولا طلاسمُ الهيروغليفية، ما ذهبوا لشراءِ تُرابِ الأجداد. هكذا فعلَ الرومُ، واليونانُ، والفرسُ، فتآلفَت حضاراتُ الشعوب، ولانت كلماتُ اللهِ لعيسى عليه السلام، لكنهم استنسخوا منها ما تبدّلَ على أيدي الكنيسةِ القديمة، وظنَّ الملوكُ أنهم أعادوا نظمَ سطورِ التاريخِ المكتوب، فتخفَّت مكتبةُ الفاتيكان، واحتفظَت ببقايا السَّلبِ من الأوراقِ والمخطوطات، حفاظًا على "البيتِ الأبيضِ الجديد"، بنجمتهِ الخُماسية، وصورٍ مركَّبةٍ من خيالٍ مُبهْرَج، اجتهدوا ليُقنعوا الناشئَ الجديدَ بأنها حقيقة.

لكن يبقى القلمُ، أولُ ما خلقَ الرحمنُ، أقدمَ أداةٍ لفهمِ طبيعةِ الأمور، ويطفو على السطحِ ما دُوِّن، كما فعلَ عثمانُ رضي الله عنه، بنسخهِ كلماتِ الرحمن، ليَمضي 1400 عام، ويعثرَ الأتراكُ على أقدمِ مخطوطةٍ لكتابِ الله، تتزامنُ مع لوحةِ السامريّ في بغداد.

رسائلُ التبديلِ والتحريفِ والتزييف، تاريخٌ نعيشهُ يُزَوَّرُ أمام أعيننا، لكن لا يُبعدُنا عن إنسانيةٍ نَدِمَ قابيلُ على فعلتهِ الأولى إلا اليقينُ بأنَّ اللهَ يرى، وأنَّ القتلَ والخرابَ لا يُرضي اللهَ، ولكننا نُذكّركم بأنكم ارتضيتم به، لعلّكم تتفكّرون.

إهاب حمدي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Post Top Ad

Your Ad Spot